ذاكرتي التي لا تموت في تل الزعتر


ياسر علي - شبكة العودة الإخبارية

هذا الصباح، وقبل 46 عاماً، كنت طفلا في السادسة. استيقظنا على صوت أمي توقظنا عند تشقق الضوء، كي نتجهّز ليوم شاق، ما زلت أعتبره أطول يوم في حياتي.. بل كان انتقالاً بين حياتين عشتهما.

أبي، خرج قبلنا مع الجرحى في سيارات الصليب الأحمر.

أخي الكبير هاني (17 سنة) كان خارج الحصار بحكم دراسته في بيروت.

أخي الثاني، محمد (14 سنة) ، سبقنا قبل ليلة مع رجال المخيم للخروج متسللا في الجبال. وسيختطف بعدها 27 يوماً.

وكنا ثلاثة مع أمي.

أخي الثالث أكرم (11 سنة)، كان الطفل الكبير او الرجل الصغير يومها، وما زال حتى اليوم الطفل الكبير.

أخي الرابع جلال (7 سنوات)، الذي لم نتفارق بعدها (في المدرسة، فس الاجتياح، في حرب المخيمات، في الحارة، في مسيرة الحياة).

والخامس كاتب هذه السطور، ياسر علي (6 سنوات)، حيث قررت لاحقا أن لا أترك فرصة للحديث عن التجربة الا انتهزتها.

*   *   *

في صبيحة هذا اليوم، 12 آب، في هذا الوقت الساعة 10 صباحا، كانت المجزرة في مراحلها الأخيرة.

سبقها مرورنا في فتحات الجدران التي كان المقاتلون يستخدمونها، وعند أول إطلالة على مقاتلي الكتائب  أطلقوا النار فوقنا.

ظنّ جلال أنهم استهدفونا وقتلونا، فانطلق ركضا الى داخل المخيم مرة أخرى، وأجبرونا على سلوك طريق طويلة قصدوا منها مرورنا بين البيوت والمباني، حيث أطلّ السكان يتفرجون على "استسلامنا" الذي أسموه "موكب النصر" (تماما كما فعل اليهود بأهالي ضحايا مجزرة دير ياسين في شوارع القدس).

وبقيت ملتصقا بأكرم (الذي كان الأمان، فقضيت نهاري ملتصقا به في ذلك اليوم).

في هذه الأثناء، بدأت المجزرة ببطء، ثم توحّشت بالمواكب التي تلتنا. كتبت سابقا عن تفاصيل ووقائع المجزرة، ولن أكررها الان، ولكن المشهد الذي لا يغيب، هو انتقامهم من أهالي المقاتلين، فربطوا أرجلهم بسيارات انطلقت باتجاه معاكس، وفلخوا أجسادهم أنصافاً (مثل أبو علي سالم، ورجل من عائلة فريجة).

جمعونا في ساحة الفندقية بالدكوانة، بعد مسير طويل، كان يمكن اختصاره بعشر دقائق.

وجاء أمين الجميل وبعض السياسيين للإشراف على الإخلاء، وجاءت الشاحنات من مختلف الأحجام لتنقلنا، وبدأنا نصعد تحت صراخ المسلحين المتواجدين وأزيز الرصاص في الهواء، والرعب المخيّم علينا.. مات عشرات الأطفال اختناقا في الشاحنات.

حملتنا الشاحنات الى بيروت الغربية، الى دار المعلمين في المدينة الرياضية. وجلسنا أنا وأكرم على "البقجة" التي حملتها أمي طوال الطريق. استقبلنا خالي أبو سليمان، ولكن أمي رفضت المغادرة بانتظار جلال، (بقيت أمي تقول ان هذا اليوم كان أصعب يوم في حياتها طولاً وحرارة وتعبا وبكاء، خصوصا في لحظات انتظار جلال).

كنا طفلين على "بقجة" ننتظر أخانا المفقود، العطش يُطفئنا، والعرق يبللنا، والجوع يأكلنا.. والمصورون يتجولون بيننا يلتقطون صور وجوهنا المشحّرة من طول الرحلة.

نجلس في تعبنا، ننتظر أمّنا  كي تعود ببشارة عودة جلال. عادت تطمئن علينا عدة مرات، لا أنسى وجهها المفجوع وبكاءها العالي وشعرها المنكوش وحجابها الساحل الى رقبتها. وثيابها المتسخة المبللة بالعرق.

كانت تعود، في اشتعال المأساة، لتسألنا إذا أكلنا أو شربنا.

حتى جاءت بعد عدة جولات لتبشرنا بعودة جلال، لننطلق مع خالي الى مخيم برج البراجنة.
تاريخ الاضافة: 17-08-2022
طباعة