« الفلسطينيون في الكويت ودورهم في التأسيس والنهضة »







(نصوص اختارتها شبكة العودة الإخبارية من كتاب شفيق الغبرا "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت")

 
لم تكن بداية الفلسطينيين في الكويت  دفعة واحدة أو بطريقة واحدة، فهي بدأت من ثلاثينيات القرن العشرين حين أوفد الحاج أمين الحسيني عدداً من المدرسين إلى الكويت بناء على طلب من أميرها، حيث كان لهم تأثير مهم في إنشاء الجهاز التربوي فيها، حتى صار لاحقاً وزارة التربية.

وبعد النكبة 1948 دخل بعضهم عبر عقود عمل، وبعضهم بالتهريب على مدى عقدين من الزمن.

فيما يلي نصوص اختارتها شبكة العودة الإخبارية من كتاب الدكتور شفيق الغبرا "النكبة ونشوء الشتات الفلسطيني في الكويت".

 


الفلسطينيون الذين انتقلوا إلى الكويت بين عام 1948 ومطلع الخميسنيات، تركوا أثراً تنموياً مهماً جداً فيها. وكان للفلسطينيين الذين لجأوا إلى السعودية والخليج والأردن ولبنان وبلدان عربية أخرى تأثير مماثل، فقد تركوا أثراً كبيراً في أوجه التنمية كلها تقريباً، اقتصادية كانت أم عسكرية أم إدارية أم تربوية، ولا سيّما في المرحلة الممتدة بين عامي 1948 و1965.

 

تميزت هذه المرحلة في الكويت بإرساء أسس البنى التحتية الاقتصادية الحديثة في الكويت، إذ أدى الفلسطينيون دوراً أساساً في القوة العاملة في هذا المجال. فمثلاً في عام 1965، كان 48% من الموظفين في القطاع العام في الكويت من الفلسطينيين (15512 رجلاً و1477 امرأة). وفي القطاع الخاص كان الفلسطينيون يشكلون 41.4% من مجموع الموظفين.

  


وصل خيري الدين أبو الجبين كمدرس من يافا إلى الكويت في عام 1948. إلى جانب عمله في التدريس، تولى أمانة سر اتحاد الرياضة الكويتي بين عامي 1953 و1957. وبين عامي 1957 و1964، شغل منصب أمين سر اتحاد كرة القدم الكويتي. التحق العديد من الفلسطينيين بالنشاط الرياضي، من بينهم زهير الكرمي وجميل الصالح، وكانت لكليهما مسيرة مهنية استثنائية في وزراة التعليم الكويتية.

 


ساهم الكرمي خلال الستينيات، ولأكثر من عقد، في تبسيط العلوم من خلال برنامج تلفزيوني بعنوان "الحياة والعلوم"، وكان يلقى نسبة مشاهدة عالية. أما الصالح الذي أصبح كبير مفتشي مادة الرياضيات في المدارس الثانوية، فوضع منهاج الرياضيات للصفوف الثانوية، وأدى دوراً أساساً في إدخال الرياضيات الحديثة إلى المدارس الكويتية.


كان هاني القدومي مؤسس أول دائرة حديثة للإقامة وجوازات السفر في عام 1949. وفي العام نفسه عُيّن أمين سر نائب أمير الكويت، الشيخ عبدالله مبارك الصباح. وتولى التنسيق بين الوكالات المختلفة الخاضعة لسلطة نائب الأمير، بما في ذلك الجيش الحديث العهد وهيئة الطيران المدني ودوائر الأمن العام والمحطة الإذاعية.

أُسّست أول محطة إذاعية حديثة في الكويت على يد محمد الغصين من الرملة في فلسطين الذي كان مديراً لها أيضاً. كان الغصين موظفاً رفيع المستوى في شبكة الإذاعة البريطانية "الشرق الأدنى"، حيث عمل بها في يافا منذ انطلاقتها خلال الحرب العالمية الثانية. بعد حرب  1948، نقلت الشركة مقرها إلى قبرص، وفي عام 1956، خلال حرب السويس، استقال الغصين وجميع الموظفين الفلسطينيين والعرب من الشبكة. في عام 1958، طلبت منه الكويت تأسيس أول محطة إذاعية كويتية وإدارتها. وفي غضون عام واحد، رأت أول إذاعة حديثة في الكويت النور بمساعدة موظفين كويتيين وعرب وفلسطينيين.

أحمد عبد العال هو من الفلسطينيين الذين انضمّوا إلى الإذاعة الكويتية في عام 1959 للعمل مترجماً لحساب وكالة رويترز. وقد أصبح من أبرز المقدمين الإذاعيين والتلفزيونيين في الكويت.

في الإطار نفسه، كان لشريف العلمي الآتي من فلسطين، والذي استقال مع بقية العاملين من إذاعة الشرق الأدنى التي تمولها الحكومة البريطانية احتجاجاً على العداون الثلاثي على مصر في عام 1956، مساهمات نوعية عبّر عنها من خلال تطوير إذاعة الكويت ثم تلفزيونها، كما قدم برنامج "سين جيم" في عام 1962 في الكويت الذي يمكن اعتباره أول البرامج الجماهيرية في التلفزات العربية الوليدة.

في عام 1962، عندما أُصيب الفلسطيني اشرف لطفي من يافا بجلطة دماغية، والذي كان يدير مكتب أمير الكويت، حلّ هاني القدومي مكانه. وفي عام 1965 استقال الأخير من منصبه وأطلق مشروعاً خاصاً ناجحاً، حيث أصبحت شركته رائدة في تسويق المعدات الطبية والأدوية. كان أشرف لطفي سابقاً مدير مكتب عبدالله الملا، أمين سر الحكومة الكويتية، المسؤول عن العلاقات بين أمير الكويت وشركة النفط. ولدى وفاة الملا، أصبح لطفي مدير مكتب أمير الكويت. ولاحقاً أصبح لفترة محدودة أمين عام منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبيك) وممثل الكويت فيها، إذ كان لطفي واسع الاطلاع في صناعة النفط. وانضم عدد كبير من الوافدين الأوائل الفلسطينيين إلى دوائر الأمن العام في مناصب إدارية بين عامي 1948 و1953، كان من بينهم أنور الهنيدي وزياد زعيتر وزكريا الكردي وعبد الكريم الشوا، كما نذكر في التعليم بدر الكالوتي وعشرات الأساتذة المتميزين فكانت لجميعهم مسيرات مهنية لافتة في القطاعين الخاص والعام في الكويت.

عبدالكريم الشوا، وهو من عائلات غزة القديمة والقيادية التي توجهت إلى الكويت في عام 1949، تميز في إدارة الأمن العام في منطقة الأحمدي تحت قيادة الشيخ جابر الأحمد الصباح، وبعد فترة تولى منصباً قيادياً في دائرة النفط قبل استقلال الكويت، ومن ثم في وزارة النفط بعد الاستقلال في مجال الموارد البشرية والتوظيف. انتقل بعدها لإنشاء مجموعة شركات في مجال التجارة والمقاولات تميزت بالنجاح والفعالية. وما ميز تاريخ الشوّا (كما هو الأمر مع الوافدين الأوائل) هو دعمه لكثير من الفلسطينيين ممن سعوا إلى بناء مستقبل جديد في الكويت بعد نكبة مدمرة.

من جهة أخرى، جاء إلى الكويت مصطفى الشوّا، وهو شقيق عبدالكريم من غزة في عام 1953، بصفته مديراً للمحاسبة العامة في مديرية الشرطة والأمن العام بإدارة الشيخ عبدالله المبارك، وعند إنشاء الوزارات الرسمية في الكويت مع الاستقلال، أصبح مصطفى الشوّا مدير الشؤون المالية في وزارة الدفاع التي ترأسها الشيخ سعد العبد الله، واستمر في عمله إلى أن تقاعد في عام 1977 بدرجة وكيل وزارة مساعد.

عبد المحسن القطان، كان من أبرز المساهمين في تطوير البنى التحتية الحكومية في الكويت. وصل القطان إلى الكويت في عام 1951 حيث عمل مدرساً في ثانوية المباركية، التي كانت آنذاك المدرسة الثانوية الوحيدة في البلاد. ثم ذهب إلى الأردن حيث أصبح مسؤولاً عن التعليم التجاري في الضفة الغربية حتى عام 1953. عندما استقطبته الحكومة الكويتية مجدداً في عام 1953، كانت وزارة الكهرباء قد أُسّست حديثاً بعد سيطرة الحكومة على شركة خاصة صغيرة كانت تولّد كمية محدودة من الطاقة الكهربائية. عندما استقال القطان في عام 1963، كان مديراً عاماً في وزارة الكهرباء.

إلى جانب القطان، شارك مهندس آخر من الوافدين الأوائل يدعى زكي أبو عيد في قيادة وزارة الكهرباء، وهو من قرية قرب يافا، ومن المهندسين الفلسطينيين القلائل الذين تخرجوا في إحدى الجامعات البريطانية قبل عام 1948. شارك أبو عيد في الجهد الهادف إلى إنشاء وزارة حديثة وفاعلة للكهرباء. وقد ارتقى، وهو أول مهندس عربي في الوزارة، سلّم المناصب ليصبح كبير المهندسين في الوزارة الجديدة حتى وفاته في أواخر السبعينيات.

في مطلع الستينيات، أطلق القطان شركة "الهاني"، إذ تمكن في غضون أعوام قليلة، وبرأسمال صغير، من إنشاء واحدة من شركات البناء المتقدمة في الكويت والمنطقة. فقد ضمت "الهاني" شركات عدة وامتدت أعمالها إلى لبنان والسعودية والخليج وشمال أفريقيا.

توسّع الدور الفلسطيني في القطاع الخاص في الخليج إلى حدٍ كبير خلال هذه المرحلة، بدءًا بأول مصنع للأوكسجين في الخليج، الذي أسسه سليم الهنيدي في أواخر الخمسينيات.

في هذا الإطار وصل عبد الرحيم معروف إلى الكويت متعاقداً مع دائرة المعارف في عام 1951، وعمل مدرساً في مدرستي الأحمدية والمباركية حتى عام 1955، وانتقل إلى بنك التسليف والإدّخار ثم إلى ديوان المحاسبة لغاية عام 1966، لكنه مثل آخرين من الشريحة ذاتها، سعى باتجاه القطاع الخاص، فكان شريكاً ومديراً لشركة "برهان" وشركات أخرى.

ساهم الفلسطينيون أيضاً في القطاع التربوي في الكويت بانعكاسٍ لهاجس المعايير المهنية الذي يسكنهم. عُيّن مدرسون فلسطينيون كثر جاءوا إلى الكويت مديرين ومفتشين تربويين. وألف عدد كبير منهم كتباً مدرسية لوزارة التربية أو أدرجوا مواد تعليمية إضافية في المنهاج. وأسست رائدات فلسطينيات كثيرات مدارس خاصة حديثة في البلاد وأنشأت إحداهن (سلوى أبو خضرا) أول حضانة في الكويت.

في عام 1957 وصلت سلوى مع زوجها إلى الكويت. وبعد ملازمة المنزل مع ابنها ثلاثة أعوام، قررت العمل على غرار العديد من بنات جيلها الرائدات. وبعد العمل فترة وجيزة في وزارة الصحة في الكويت، أدركت أن إحدى المسائل الأكثر خطورة والتي تؤثر في النساء العاملات هي غياب دور الحضانة التي تعني بأولادهن في اثناء العمل. كانت الفلسطينيات ممن جئنَ بعد النكبة إلى الكويت من سورية والأردن ولبنان منقطعات في معظمهن عن عائلاتهن وعن شبكات الدعم، ولذلك لم يكن لديهنّ أقرباء يستطعن الاعتماد عليهم للاعتناء بأطفالهن.

هكذا كتبت أبو خضرا، التي لم تكن لديها أي تجربة في مجال دور الحضانة، رسالة إلى وزارة الشؤون الاجتماعية الأميركية تطلب فيها معلومات ومراجع عن الحضانات وإنشائها. فحصلت على كتيبات ومجلات وقوائم ببرامج تدريبية، فباشرت دراسة برنامج صارم للدراسة الذاتية استمر اكثر من عام. وفي عام 1963، افتتحت دار حضانة صغيرة توسّعت بعد أعوام قليلة لتُعرف في ما بعد باسم مدرسة دار الحنان.

من الشخصيات المميزة التي أدت دوراً بارزاً في تطور التعليم في الكويت درويش المقدادي، الذي كان يتمتع بشخصية استثنائية وقوية وذات علاقات عربية واسعة وبُعد قومي، خاصة في العراق. وعُيّن بفضل مهاراته التنظيمية والتربوية الاستثنائية، مديراً للتعليم في الكويت في عام 1950. كان قد أسس في الثلاثينيات الكشافة العراقية وكان رئيس "دار المعلمين العليا" في العراق (أعلى منصب تعليمي في البلاد في ذلك الوقت). بعد حرب 1948، سعت وزارة التربية الكويتية إلى استقدام المقدادي الذي كان يقيم في دمشق بعد النكبة للعمل لديها. ومنذ عام 1950، عندما أصبح مديراً للتعليم في الكويت، حتى وفاته في عام 1962 ساهم إلى حد كبير في تقدم القطاع التربوي في البلاد.

إلى جانب درويش عُرِفت ربيحة الدجاني (زوجة درويش) بمساهمة نوعية في مجال التعليم العام والخاص. كانت ربيحة مؤثرة في مجال التعليم النوعي الذي بدأ يدخل إلى الكويت من كل صوب وجانب، وهذا ينطبق على كوكبة من المدرسات منهن فضيلة الدجاني.

لا يمكن تلخيص مساهمات الفلسطينيين في التعليم، فهي كانت نوعية بكل ما تعني الكلمة، إذ إنهم نقلوا تجاربهم التعليمية بكل تفانٍ إلى المجتمع الجديد في الكويت. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تُمثل ضياء السعيد قلعاوي نموذجاً للعديد من الذين تميزوا في التعليم على مستويات كثيرة، فهي خريجة دار المعلمات في فلسطين في عام 1945، لكنها بعد النكبة لجأت إلى لبنان، وعندما جاء عبد العزيز حسين إلى لبنان طالباً مدرسات للعمل في الكويت في عام 1952، وذلك في إطار النهضة التعليمية التي تطورت للرجال كما للنساء، تعاقد معها في سلك التدريس في الكويت، وخلال عام اصبحت ضياء السعيد ناظرة للمدرسة التي عملت فيها، وقد ساهمت في تأسيس المسرح المدرسي للبنات.

قصص هؤلاء الوافدات الأوائل غزيرة ومتنوعة، إذ تركن بصمة كبيرة في مجال التعليم في الكويت.

أما في المجال الصحي، فقد دخل عشرات الأطباء الفلسطينيين الكويت بين عام 1948 ومطلع الخمسينيات، منهم مثلاً سامي بشارة الذي كان جراحاً عمل في مستشفى يافا قبل عام 1948، وكان من أوائل الأطباء العرب والفلسطينيين الذين وصلوا إلى الكويت. كان هناك طبيبان أو ثلاثة فقط في الكويت في ذلك الوقت. وفي عام 1942 أنشأ يحيى الحديدي وهو طبيب سوري وأول طبيب عربي يأتي إلى الكويت المستشفى الأميري الذي كان أول مستشفى وطني في الكويت وأصبح بشارة لاحقاً مدير ذلك المستشفى.

زوال كثير من الأطباء الفلسطينيين مهنة الطب في العيادات التي فتحت أبوابها في الكويت في مطلع الخمسينيات، وشاركوا في جهد التأسيسات الطبية الأولى في الكويت إلى جانب العدد القليل من الأطباء البريطانيين والعرب الذين زاولوا المهنة في ذلك الوقت. نتوقف في هذا الإطار عند المسيرة المهنية البارزة لكل من ناظم الغبرا من مدينة حيفا وعلي العطاونة من مدينة بئر السبع في فلسطين. عندما وصلا إلى الكويت في عام 1952، لم يكن عدد الأطباء فيها كبيراً، فكُلّفا على الفور مهمات في العيادات وفي المستشفى الأميري. وفي أواخر الخمسينيات كانا ضمن مجموعة من الأطباء الذين أُرسلوا إلى بريطانيا العظمى ضمن اتفاق مع وزارة الصحة الكويتية بأن يستمر معاشهما بينما يتخصصان ويكتسبان خبرة عملية. ولدى عودتهما تولى كل منهما مجالاً مهماً في المستشفى الأميري الذي كان المستشفى الوطني الوحيد في الكويت في ذلك الوقت، فعمل العطاونة جراحاً والغبرا طبيباً مختصاً بأمراض القلب. في عام 1964 استقال الغبرا وأنشأ عيادة خاصة لأمراض القلب. وفي كانون الأول/ ديسمبر 1965 قرر العطاونة الذهاب إلى الولايات المتحدة لمتابعة تحصيله العلمي  والتخصص في جراحة الأوعية الدموية. ولدى عودته ظلّ لأعوام عدة الطبيب الوحيد في الكويت القادر على إجراء مثل هذه العملية الجراحية. واستمرّ في العمل مع الحكومة ليصبح في عام 1977 مدير الدائرة الطبية العسكرية في الكويت ومساعد نائب رئيس الموظفين للخدمات الطبية.

في عام 1965 شارك العطاونة والغبرا في الفريق المؤلف من أربعة أطباء والذي أشرف على العلاج الطبي لأمير الكويت حينها، الشيخ عبد الله السالم الصباح. وكان الغبرا لفترة طويلة الطبيب الشخصي للشيخ صباح السالم، بالإضافة إلى نشوء صداقة ممتدة معه. كما رافقه في مراحل شتى من حياته فكان معه في جميع محطات حياته الرئيسية، منذ أن شغل منصب مدير دائرة الصحة تم تعيينه وزيراً للخارجية، إلى أن أصبح وليّاً للعهد، وأخيراً أميراً بين عامي 1965 و1977.

ومن الفلسطينيين الذي تولوا إدارة منشآت طبية، كان عادل جراح من عكا، الذي أصبح المفتش العام في المستشفى الأميري بين عامي 1953 و1962، ومن ثم عُيّن المدير الأول في مكتب وزير الخارجية ثم سفيراً للكويت في عواصم عدة، منها عاصمة الاتحاد السوفياتي.

في مجال التمريض، كانت الممرضات في معظمهن فلسطينيات مسيحيات تخرجن في مدارس التمريض التابعة للإرساليات في فلسطين، مثل مستشفى القديس لوقان وتَوَلَّين رئاسة معظم أقسام التمريض في المستشفى الأميري حتى مطلع الستينيات.

عادل رشق من الخليل نموذج لشخصية عصامية. توفي والده في عام 1948 في إحدى المعارك في فلسطين، فاضطر وكان في الثانية عشرة إلى ترك المدرسة وتحمُّل المسؤولية كاملة في إعالة أسرته المؤلفة من ثمانية أشخاص حيث عمل حتى عام 1953 فنياَ كهربائياً في الضفة الغربية، ثم انتقل إلى الكويت حيث وجد وظيفة عامل كهربائي. لكنه وبعيداً عن الوظائف التي شغلها، تابع تحصيله العلمي الرسمي، فأخذ دروساً من طريق المراسلة من إذاعة "كوربورايشن أوف أميركا" ومن مدرسة أميركية متخصصة في العمل الإذاعي والاتصالات اللاسلكية. وقد أهلته مهاراته المعززة للعمل في وزارة التربية في عام 1958، حيث وُظّف في قسم المرئي والمسموع وساهم في زيادة استخدام الوسائل المرئية والمسموعة في التعليم. كما نظم حلقات عمل للمدرسين من أنحاء الكويت المختلفة.

هذا كله ساعد رشق في عام 1961 في تأسيس "شركة الأدوات الإلكترونية". وبحلول السبعينيات أصبح للشركة اثنا عشر فرعاً في أنحاء العالم العربي المختلفة واليابان وفرنسا.

كذلك بكري الطباع الذي كان يعمل معدّ تصاميم ومخططات في وزارة الأشغال العامة في الكويت مطلع الخمسينيات له حكاية مماثلة، فقد استثمر المال الذي ادخره بأن توجه إلى الولايات المتحدة لنيل شهادة في الهندسة، وأصبح في أبرز المهندسين في الكويت.

بالإضافة إلى ذلك، شارك الفلسطينيون في بلدية العاصمة الكويت وشغلوا مناصب رفيعة فيها، فقد كانت لخالد الحسن الذي كان من الوافدين الأوائل إلى الكويت، مساهمة قيمة فيها في أيلول / سبتمبر 1953، بعد عام من وصوله إلى الكويت وكان في الخامسة والعشرين، عُيّن مساعد أمين عام مجلس التنمية الذي كان يتولى إدارة التخطيط وأعمال البناء لتشييد الكويت الحديثة. كانت مشاريع البناء كلها خاضعة لسلطة المجلس، ولا يمكن الشروع في تنفيذها قبل الحصول على موافقته، ضم المجلس جميع أعضاء بلدية الكويت ومساعدي الوزراء وجميع الدوائر الحكومية التي شاركت في مشاريع ذات صلة، عندما حُلَّ المجلس في عام 1959 ونقلت صلاحياته إلى بلدية الكويت، عُيّن الحسن أميناً عاماً للمجلس البلدي وبقي في منصبه هذا حتى عام 1969 تاريخ حصوله على الجنسية الكويتية تقديراً للخدمات التي قدمها للبلاد. وفي عام 1969 انتخب الحسن، وهو عضو مؤسس في حركة فتح – التنظيم الفلسطيني الأساسي الذي برز بهدف تحرير فلسطين في عام 1965، عضواً في اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية وأصبح منذ ذلك الوقت من الشخصيات البارزة في الحركة الوطنية الفلسطينية.

فلسطيني آخر يدعى طلعت الغصين، وهو أيضاً من الآتين الأوائل إلى الكويت، شغل مساعد الأمين العام لمجلس التنمية، ثم أصبح في الستينيات سفير الكويت لدى الولايات المتحدة ثم يوغسلافيا، وهو واحد من ثلاثة سفراء من أصل فلسطيني من الرعيل الأول ممن مثّلوا الكويت في الخارج.

من أهم التجارب التي لم يُسلّط عليها الضوء هي تلك التي خاضها سابا جورج شبر، المهندس المعماري من القدس الذي تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت في عام 1944، ثم في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) للماجستير والحاصل على الدكتوراه من جامعة كورنيل الأميركية في عام 1956.

لقد دفعه تعليمه ثم خبرته العملية في مجال تخطيط المدن في أكثر من مدينة عربية للمجيء إلى الكويت وترك بصمة كبيرة، فهو الشخصية الأهم في عمل المخطط المعماري لدولة الكويت الحديثة، إذ وضع خبرته لعمل المخطط الهيكلي الأول لمدينة الكويت الحديثة. إن الشكل الحالي لمدينة الكويت الحديثة ما زال مرتبطاً بالأساس الذي وضعه وأبدعه سابا جورج شبر، لكن التاريخ لم يتحدث كثيراً عن سابا، خاصة أنه توفي مبكراً في ستينيات القرن العشرين إثر نوبة قلبية حادة.

وجيه المدني من عكا وهو من مواليد عام 1921، كان برتبة عريف في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية. في ذلك الوقت، لم يكن هناك أي ضابط عسكري فلسطيني في صفوف الجيش البريطاني. وبفضل أداء المدني في الحرب، أتيحت له فرصة الأإلتحاق بكلية الصرفند العسكرية في فلسطين. وفي عام 1946 تخرج برتبة ملازم ثانٍ، ومنذ عام 1946 حتى 1947 تولى تدريب الجيش السعودي الحديث العهد، وكذلك درب بالتعاون مع حازم الخالدي الفلسطينيين الخمسة والستين الذي جُنّدوا في دورة قطنا العسكرية في سورية ليتخرجوا برتبة ملازم للدفاع عن فلسطين، ومن هذه المجموعة خرج عدد كبير من الأشخاص الذين أصبحوا لاحقاً القادة العسكريين في فلسطين، لقد نشط المدني في الدفاع عن فلسطين خلال حرب 1948.

عندما وصل المدني إلى الكويت في عام 1952 للعمل في جيشها الذي أنشئ حديثاً، وكان دون الثلاثين، ضم الجيش ثلاثة ملازمين بينهم فلسطيني يُدعى فتحي سدر الذي كان أيضاً من الآتين الأوائل إلى الكويت، وكان قد حارب في صفوف الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية وألقى الألمان القبض عليه، وشارك وجيه المدني في إنشاء عدد كبير من الأقسام والوحدات الأساسية في الجيش الكويتي، ووضع خبرته في تصرف زملائه الكويتيين لبناء جيش حديث، واستمرت مسيرته المهنية في الجيش الكويتي حتى عام 1984، تخللتها فترة انقطاع بين عامي 1965 و1969 وكان خلالها القائد الأول لجيش التحرير الفلسطيني، الجيش الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية، وقد عُيّن المدني حينها قائداً لجيش التحرير بتفاهم بين الشيخ عبد الله السالم، أمير الكويت من جهة والرئيس جمال عبدالناصر ورئيس منظمة التحرير أحمد الشقيري من جهة أخرى.

قدّم فلسطينيون كثر سواه خدمات أساسية للجيش الكويتي، فعلى سبيل المثال أسس عمر زعيتر سلاح المدفعية وتولى قيادته وشارك بفاعلية مع القوات الكويتية في حرب 1973 على جبهة الجولان السورية، وإقراراً لإنجازاته منحته الكويت الجنسية.

وهناك فضلاً عن ذلك خليل شحيبر وهو ضابط سابق في الشرطة في فلسطين زمن الانتداب الابريطاني، أسس الشرطة الكويتية وتولى قيادتها في عام 1951، واستمر بدوره القيادي حتى تقاعده في مطلع الثمانينيات. ترك شحيبر بصمة كبيرة في بناء هذا الجهاز في بدايات سعي الكويت لنيل استقلالها، وفي مطلع الخمسينيات أسس الموسيقي الفلسطيني طلعت العلمي أول فرقة موسيقية في الجيش الكويتي بالتعاون مع موسيقيين آخرين هُجّروا من القدس.

في قطاع الزراعة كانت مساهمات نوعية أيضاً، تخرج يحيى غنام من طولكرم في مدرسة خضوري في فلسطين قبيل حرب 1948، وبعد وصوله إلى الكويت في عام 1954 خاص معركة خلاقة وحافلة بالتحديات مع الطبيعة من خلال توليه منصب مدير دائرة الشؤون الزراعية في الكويت.

وقد أدّى يحيى غنام دوراً حاسماً في الجهد الذي جعل صحراء الكويت تنبض بالحياة الخضراء، بحلول أواخر الخمسينيات بدأت الأشجار تحيط بالإسمنت الذي كان يزحف نحو الصحراء وسجلت زيادة لافتة في تربية الدواجن والحيوانات الأليفة.

بقي غنام في منصبه حتى تعيينه ممثلاً دائماً للكويت لدى منظمة الأغذية والزراعة (FAO) في عام 1967، وفي عام 1969 طلبت المنظمة من الحكومة الكويتية تعيينه مديراً عاماً لمكتب المنظمة الإقليمي الذي يغطي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

في المجال المالي برز حيدر الشهابي خريج الجامعة الأميركية في بيروت وأحد خمسة أشخاص شكلوا نواة وزارة المال مطلع عام 1949 في الكويت. عُيّن الشهابي في البداية مساعداً لمدير وزارة المال، وعندما تقاعد في عام 1970 لينتقل إلى القطاع الخاص، شغل منصب الوكيل المساعد للشؤون المالية والإدارية بوزارة المالية والنفط، حيث ساهم في عقدين من العمل والتأسيس للمؤسسات المالية في تحويل عملة الكويت من الروبية إلى الدينا، كما ربط قيمة الدينار بسلة من العملات بالإضافة إلى مساهمته في بدايات "صندوق الأجيال القادمة" و "المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية".

لا بد من التوضيح بالقول إن الكويت قامت بتجنيس كثيرين من هذه الشريحة والذين وصل عددهم مع عائلاتهم المباشرة المئات في ستينيات القرن العشرين، ينطبق هذا على عددٍ ممن عُرضت تجاربهم كالقدومي، القطان، الغبرا، العطاونة، الشوا، المدني، نسيبة، الشهابي، شحيبر، الجراح، معروف وعشرات غيرهم، وينطبق في الوقت نفسه على كثيرين ممن لم نعرض تجاربهم بسبب عدم اتساع هذه الدراسة لذلك. 


» تاريخ النشر: 12-08-2021
» تاريخ الحفظ:
» رابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان
.:: http://palteachers.com/ ::.