« «فرن الطين».. نكهة تراثية على حدود البلاد لدعم مسيرة العودة بالخبز »







من تراب هذه الأرض التي نحيا بهوائها وأنفاسها، يجبل الغزيون الطين والقش ليصنعوا منه "أفران الطين"، هذه الأفران التي يخبزون عليها أشهى الأرغفة ليساندوا بها المعتصمين في خيام مسيرة العودة الكبرى على حدود قطاع غزة، فيها من عبق البلاد عندما يتربع الفرن في فناء البيت وتتدلى "الدالية" المُعرّشة ما فيها.

تلك الأفران لم يكن لها بديل قبل الهجرة أي قبل نحو 70 عام، وهي بدفئها تجمع الأحباب على لمتها حول ناره، فهذا يُطعم النار بصغائر الخشب، وذاك يصنع "المناقيش" في نهاية الخبز، وآخر يتفقد حلّة الطعام التي تغلي على فوهة الفرن.. فرنٌ له رائحة تثير في الروح شذى الأرض ولّمة الأحبة.

خبز طابون

تُرى إذا كانت أم خالد النجار تنتهي في السابعة صباحًا، من الخبز على فرن الطين داخل ملحق منزلها، فمتى تبدأ؟ ، تقول: "أصلي الفجر وأعجن طاجن العجين، وأخبزه صباحًا قبل بدء حرّ النهار، ثم يأخذه أحفادي ليمدوا به المعتصمين”.

أم خالد تجاوزت السبعين عامًا بعدّة سنوات، وقد ورثت حُب خُبز الفرن عن أبويها الذي يُذكرها بالماضي ويجعلها تحلم بالعودة، "بالتأكيد سنعود هذا وسأخبز على فرنٍ أصنعه هناك وأعيد نكهة البلاد لأحقق حلم أبي"، ولم يكن أبيها يحب الخبز الحديث أو يتناوله حتى لو تضوّر جوعًا.

وقد يُعذَر رجل الزمن ذاك بأنه كان في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي _حيث عاصر_ لكل عائلة فرن واحد، يخبز عليه الأعمام والبنات والكنائن خبز الطابون الأثري القديم، بحيث يضعونه في سلة مصنوعة من عسفِ النخل يُسمونها "مرجونة”.

وفيما لم يكن لديهم ثلاجات ولا كهرباء، فقد كان يحفظونه في تلك السلة المخرمة، بعد أن يضعوا في قاعها قطعة قماش، ثمّ يعلّقونه بعمود الخيمة في بهو البيت صيفًا، وداخل الغرفة الاسمنتية شتاءً، فلا يصيبه عفن أو عطب.

كما أن الفرن لا يُستخدم في ذلك العصر لخبز الرغيف فقط، بل تتجاوز مهامه إلى إعداد حلّة الغداء، وصنع الحلويات من الكعك و"حلاوة الحلبة" و"البسبوسة" التي تتناولها النسوة إناءً إناء، وإبريق الشاي مع المعجنات بالزيت والزعتر.

عبق الدخان

ورغم مرور نصف قرن ويزيد على ذلك الزمن الأول إلا أن ماجدة غزال (48 عامًا)، التي لم تعِش زمانٌ كان فيه للفرن "هيبته" و"لمته"، لم تزل متمسكة بالخبز عليه، متجاهلةً الشعور بالجهد أو التعب، واليوم هي ترفق هذه الأرغفة الساخنة لوجبة غداء على حدود غزة في مسيرة العودة تتناولها مع عائلتها التي تنتظر لحظة العودة لبيت داراس.

قادتنا إليها رائحة الخبز الممزوجة بالدخان، فكان عبق المكان كلّه يسبح اشتهاءًا، وقالت لـ "سبق24": "كل الجيران حولنا لم يعودوا يخبزونه لكن أنا وزوجي والأولاد لا نأكل الخبز الحديث، تعودنا على خبز الفرن فهو الخبز المُدّخن، الألذّ طعمًا، والأشهى نكهةً”.

ويحتاج الخبز على فرنِ الطينة توافر الحطب بكثرة، فاستمرار اشتعال ناره لا تتم بالورق أو الكرتون فقط، وفي هذه السنوات التي شهدت تطورًا كبيرًا على الحياة الإجتماعية للسكان في قطاع غزة حيث يقطنون الشقق السكنية، بات وجوده نادرًا أو مفقودًا.

ومع ذلك فإن كل غزيّ يعرفه، سواء من أجداده أو من بعض الأسر التي ما زالت تحافظ على مذاقه، أما طريقة صناعته فباتت محصورة في عائلات محددة من القطاع قد يكونوا ورثوا المهارة أو المهنة أبًا عن جد.

ويصنع "فرن الطينة" من الطين الحراري المستخرج من الطبقة السفلية للأرض خلال عمليات حفر آبار المياه العميقة إضافة للقش والاسمنت، ويغلب عليه اللون البني الغامق أو الأحمر الداكن، ويُباع بأعداد قليلة في بعض أسواق غزة.


» تاريخ النشر: 12-05-2018
» تاريخ الحفظ:
» رابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان
.:: http://palteachers.com/ ::.