حوار مع الأديب أسامة العيسة




أجرى اللقاء: وحيد تاجا
اعترف الأديب الفلسطيني أسامة العيسة صاحب رواية (المسكوبية ”فصول من سيرة العذاب”) أنه يشعر بالتقصير، وبالعجز، ويسأل نفسه دائما كيف يمكن أن يكتب مثلا عن صديقه عيسى عبد ربه الذي دخل عامه التاسع والعشرين في السجون.. 29 عاما لم يرَ فيها السماء كاملة، وإنما عبر الشبك، رآها مقسمة، مكعبات، مثل قطع حلوى البقلاوة.
مؤكدا أن الكتاب الفلسطينيين الذين كتبوا عن تجاربهم في المعتقلات الإسرائيلية لم يكتبوا حتى الآن السطر الأول في الملحمة الفلسطينية..! لم يكتبوا كيف يمكن أن تصبح رؤية السماء كاملة، أمنية..!.. وقال في حوار مع "مؤسسة فلسطين للثقافة" حول أدب السجون أنه أهدى روايته إلى ابنه باسل (19 عاما) الذي ما يزال يكتوي بنار "المسكوبية" كنوع من الاعتذار، عن الفشل، وعن الانقسام، والاحتراب. وعجزه عن حماية الطفل الذي كان من البطش الاحتلالي. وحول محاولته الغوص في نفسية المعتقل وصراعاته الداخلية في مختلف المراحل والتجارب التي يمر بها كصاحب حق وصاحب قضية، يؤكد أنه "لا يوجد خلاص لك من زنزانتك إلا أن تكون نفسك، صاحب قضية، تريد أن تنتصر على محقق يجب أن تراه مجرد خادم يدافع عن قضية خاسرة"..

والأديب أسامة العيسة كاتب وباحث وصحفي صدرت له العديد من الكتب أهمها: رواية (المسكوبية ”فصول من سيرة العذاب”) و(مخطوطات البحر الميت “قصة الاستكشاف”)، وقصة اغتيالات قادة انتفاضة الأقصى، و داعا يا دنيا ، كم طلقة في مسدس الموساد الإسرائيلي, كتاب معي ”كيف الحال أنا مشتاق لك”, من خان آيات الأخرس؟، وثائق وأسرار أبو عمار، وكتب أخرى..

* هل يمكن إعطاؤنا لمحة عن البدايات.. من هم الكتاب الذين تأثرت بهم..؟
** مثل كل الأدباء في الشرق والغرب، يبدأون بالشعر، أنا أيضًا بدأت مبكرا بالشعر، والزجل، وتأليف الشعارات التي رددناها في التظاهرات، أو كتبناها على الجدران.

ولكنني تحولت سريعا إلى كتابة القصة القصيرة، حيث صدرت لي مبكرا مجموعة قصصية بعنوان (ما زالنا نحن الفقراء أقدر الناس على العشق- القدس 1984)، ثم قصة طويلة بعنوان (الحنون الجبلي- رام الله 1985) وقد يكون من الملفت أن المجموعة الأولى هي التي لم يزل قرائي، وهم عدد لا أظنه كبيرا، يذكرونها، ومع انتشار وسائل الاتصال الالكترونية الحديثة، أتلقى رسائل من قراء يتساءلون أليس أنت صاحب (ما زلنا...)؟. أظن أن بعض الكتب، مثل كثير من البشر، ترتبط حيواتها، بحظوظها.

قرأت لكثيرين من الكتاب العرب والأجانب، من جبران خليل جبران والمنفلوطي، ومصطفى صادق الرافعي، إلى يوسف إدريس، وعبد الرحمن الشرقاوي صاحب (الأرض)، وتوفيق الحكيم، وطه حسين، وكُتاب مرحلة الستينات في مصر، والقاص سعيد حورانية، ومن الأجانب شدتني عوالم تولستوي، ودستوفسكي، ومكسيم غوركي، وفكتور هيجو، وأرنست هيمنجواي، وميخائيل شولخوف، وجنكيز ايتماتوف، والبير كامو، وجون شتاينبك، وفوكنر، وارسكين كالدويل، وماركيز، وميلان كونديرا، وماريا يوسا، وامبيرتو ايكو، وغيرهم كثر.

وتعددت مطالعاتي في التراث، فقرأت ألف ليلة وليلة أكثر من مرة، والأغاني، والعقد الفريد، والمقامات، والحلاج، والمتنبي، والمعري، والجاحظ، وإخوان الصفا، والأدب الأندلسي، والمعلقات والشعراء الصعاليك، وفتنتني لامية الشنفرى، وتوقفت عند شاعر عظيم، هو طرفة بن العبد. ولم أفاجأ، عندما وجدت أن الكاتب اليوناني الكبير نيكوس كازينتزاكس اقتبس شعرا منه.

في معتقل الفارعة العسكري، الذي افتتحته سلطات الاحتلال في بداية ثمانينات القرن الماضي، وكنت من الأفواج الأولى التي دخلته، سمحت سلطات الاحتلال للصليب الأحمر بإدخال مجموعة قليلة من الكتب الدينية والوجودية، وهناك اكتشفت ما يمكن أن أسميه الوجه الآخر لسيد قطب، وأقصد الجانب غير المعروف عنه، كمفكر وناقد وأديب، وبفضله تحمست لإعادة قراءة واستكمال الدخول إلى عوالم كاتب عظيم مثل نجيب محفوظ، الذي قدمه سيد قطب إلى الساحة الأدبية، وكذلك الانتباه إلى أهمية الكتاب المقدس الأدبية، من خلال تناول سيد قطب لأحد أشهر نصوص العهد القديم وهو نشيد الإنشاد.

ماذا استفادت القومية العربية من إعدام سيد قطب؟ وماذا كان سيستفيد الإسلام، لو نجح ذلك الشاب في اغتيال نجيب محفوظ؟

فلسطينيا، توقفت كثيرا عند إميل حبيبي، الذي يختلف معه كثيرون، وقد أوافقهم الرأي، في مواقفه السياسية والفكرية، ولكن لا شك بأن أدبه يشكل استثناءا في الأدبين الفلسطيني والعربي. وهو أحد كتاب المكان الفلسطيني النادرين، وبعض كتاباته مثل (اخطية) تشكل ذاكرة حيفا التي لا يمكن أن تمحا، بسبب عمل حبيبي هذا. اللغة والمكان بطلا أعمال إميل حبيبي.
قد لا أستطيع تحديد الكتب والكتاب الذين أثروا فيّ، ولكن لا شك بأن أية عوالم قدمها الكتاب الكبار، الذين ذكرتهم، لها تأثير. الكتابة لا تأتي من فراغ.

* استوقفني إهداؤك رواية "المسكوبية" إلى ابنك باسل ، الذي كان عليه هو الآخر أن يكتوي بـ "الـمسكوبية"، وعمره (15 عاماً) . ..؟
** ابني باسل (19 عاما الآن) هو أحد المضربين عن الطعام، في الإضراب الذي تخوضه الحركة الأسيرة، أو قسم منها الآن، ولم أتوقع، يوما، أن أعيش عمري كله في ظل الاحتلال، وأتزوج في ظل الاحتلال، وأنجب أبناء يُعتقلون في سجون هذا الاحتلال.. يبدو لي أحيانا أنه احتلال لا ينتهي، وأن يعيش المرء، أي امرؤ عمرا، في ظل احتلال، لهو تجسيد لأكثر الماسي الإنسانية تراجيدية وتأثيرا، ربما أهديت روايتي لباسل كنوع من الاعتذار، عن الفشل، وعن الانقسام، والاحتراب. وعجزي عن حماية الطفل الذي كانه من البطش الاحتلالي.

صدقني عندما أنظر الآن، من نافذتي وأرى الأنوار الخافتة في منازل ناسنا، أشعر بفداحة قضاء ليلة أخرى في ظل احتلال. والصحو مبكرا ليستقبلوا يوما جديدا، من مكابدات احتلال قاس.. آه ما أقسى الاحتلال.

* يتسم أدب السجون بشكل عام بالتقريرية.. والتسجيلية.. والتأريخ.. مما قد يضعف بشكل ما العمل الإبداعي.. ما رأيك..؟ وهل ترى أنك استطعت فعلا تجاوز كل هذه الأمور لتقديم هذا العمل الجميل..؟
** أتمنى أن أكون قد نجحت، أتمنى أن أكون قدمت شيئا من روايتنا ومن سِفرنا، وفي الوقت ذاته أشعر بالتقصير، وبالعجز، وأسأل نفسي دائما كيف يمكن أن أكتب مثلا عن صديقي عيسى عبد ربه الذي دخل عامه التاسع والعشرين في السجون؟. 29 ربيعا وشتاءا وصيفا وخريفا، 29 عاما لم يرَ فيها السماء كاملة، وإنما عبر الشبك، رآها مقسمة، مكعبات، مثل قطع حلوى البقلاوة. ليجرب أي شخص أن يرى السماء من خلال شبك، وليخبرني كم يمكن أن يصمد، وأي كابوس سيصيبه؟

أظن أننا لم نكتب السطر الأول في ملحمتنا..! لم نكتب كيف يمكن أن تصبح رؤية السماء كاملة، أمنية..!


* لفت نظري اعتمادك على التقطيع، والانتقال من الحاضر إلى الماضي، والعودة ثانية إلى الزمن الحاضر، أي أسلوب الاسترجاع flash back .. لماذا ..؟
** أجتهد في كل عمل جديد، سواء كان إبداعيا، أو بحثيا، أن يكون بشكل أو بآخر مغامرة في الشكل والمضمون، وأنا لا أفصل بينهما أبدا، ولست من الذين يتساهلون مع مضمون يحمل رسالة ما، على حساب الأسلوب والشكل، ولا أرى مضمونا جيدا، بدون شكل مناسب، وأعتقد بأنني في (المسكوبية) ذهبت بعيدًا في التجريب الروائي، مستفيدًا من الأساليب البحثية والصحافية، مثلا، وليس فقط الفلاش باك.

ورغم نجاح هذا الأسلوب، حسب الأصداء التي تركها العمل لدى النقاد والقراء، فإنني لن أعود إليه مرة أخرى، وهو ما سيلمسه القارئ مثلا في روايتي (قبلة بيت لحم الأخيرة) وهي تحت الطبع الآن، ومن المتوقع أن تصدر في بيروت خلال الأشهر الثلاثة المقبلة. وكذلك الأمر في عمل آخر، يحمل اسم (مجانين بيت لحم) عن تجربة المجانين العرب والفلسطينيين في مستشفى الأمراض العقلية في بيت لحم. لا يجب أن تشبه بناية، مهما كانت جميلة، بناية أخرى، وإلا لما كنا قدمنا جديدا.

* أيضا، الملفت محاولتك الغوص في نفسية المعتقل وصراعاته الداخلية في مختلف المراحل والتجارب التي يمر بها كصاحب حق وصاحب قضية، (لا يوجد خلاص لك من زنزانتك إلا أن تكون نفسك، صاحب قضية، تريد أن تنتصر على محقق يجب أن تراه مجرد خادم يدافع عن قضية خاسرة)..؟
** عندما يُحشر المرء في الزاوية، أية زاوية، يُنشط أدوات الدفاع الذاتي، التي تكون كامنة، وعليه اكتشافها، وقد لا يكون اكتشافها سهلا، ولكن في معركة الإرادة، يحقق بعض الأسرى انتصارات هنا وهناك، في حين يخفق كثيرون، الأسر، تجربة حياتية وإنسانية بامتياز، بالإضافة إلى المعاني الوطنية والرمزية، تكشف مكنونات النفس البشرية، أكاد أجزم أن الشخص الذي يخوض هذه التجربة، لن يكون نفس الشخص، بعدها، سواء كان هذا التأثير إيجابيا أو سلبيا، أو مدمرا.

نحن قبل السجن، لسنا الذين في داخله، أو الذين خرجنا منه. كم أسيرا تحرر، وتجاوز التجربة إيجابيا ليحولها إلى فعل إنساني محترم؟ وكم أسيرا خرج لينضم لأجهزة السلطة الأمنية ويمارس التعذيب، الشبيه بما مورس عليه من قبل الإسرائيليين؟.

* تعتمد التبسيط الكبير في اللغة بشكل عام سواء في روايتك تلك أو قصصك الأخرى.. هل هي سمة وميزة أم أن العمل يفرض مستوى اللغة وتراكيبها..؟
** ما تسميه التبسيط، هو بالنسبة لي مرحلة متقدمة في تطوري الأدبي، وحتى إشعار آخر، فإنني سأبقى متمسكا بالاقتصاد اللغوي، والجمل القصيرة، وتقديم لغة بقدر ما تستفيد من الفصحى، فإنها تستفيد من التراث الغني للغة المحكية.

* كان ملفتا أيضا ذلك التداخل المكاني والزماني في هذه الرواية.. المسكوبية وكيف تأسست، ومن ثم كيف تحولت من مكان حج روسي إلى معتقل..

** المسكوبية، هي بشكل آخر كما ذكرت، رواية مكان، رواية القدس، قدسي أنا في فترة معينة، لكل منا قدسه، قدسه الواقعية والرمزية، القدس مثل المدن العظيمة الأخرى، لا تقدم نفسها بسهولة، وكثيرون يعيشون فيها ويرحلون عنها، دون أن يلامسوا إلا سطحها الخادع، رغم أنهم يظنون أنهم عرفوها.

أما المسكوبية كمبنى، فهو إحدى أولى البنايات، التي شيدت خارج أسوار بلدة القدس القديمة، كانت خطوة بالغة الأثر لمدينة تتحسس خطواتها نحو حداثة من نوع جديد، تداخلت فيها صراعات دول عظمى. خاضت حروبا فيما بينها عنوانها النفوذ على أرضنا مثل حرب القرم.

المسكوبية كانت مدينة روسية حقيقية، داخل القدس، استولى عليها البريطانيون، الذين انتصروا في الحرب العالمية الأولى، وحولوها إلى سجن، لقي الكثير من المقاومين الفلسطينيين والعرب حتفهم فيها، واستكمل الإسرائيليون المهمة، وبالإضافة إلى ذلك استولوا على الرواية، فخصصوا متحفا في أحد جوانب المبنى لما يصفونه تخليدا لنضالات رجال الحركة الصهيونية، الذين عُذبوا وأعدموا في المسكوبية على أيدي البريطانيين.

إذن المكان هو أيضًا ميدان لصراع على الرواية. هي معركة شرسة، الطرف الآخر لديه الانتباه لأهميتها وخطورتها، أما نحن..؟؟!! فما زلنا نمجد مواضيع الإنشاء المملة.

* تناولك بإسهاب لمعطيات العالـم السفلي الفلسطيني من خلال المعتقلين الجنائيين مع المعتقلين السياسيين.. ساهم بشكل ما في تسليط الأضواء عليهم وعلى دورهم..؟
** حاولت في المسكوبية تقديم العوالم التحتية لمدينة القدس، وهو عالم غني جدا، وتتداخل فيه العلاقات مع العوالم "الفوقية" أو "السطحية" إن جاز التعبير.

وأود هنا الإشارة، إلى أنه في حين أن المعتقلين السياسيين، لديهم القدرة، لأسباب كثيرة، على إسماع صوتهم، فإن هذا الأمر مفقود، وأيضا لأسباب كثيرة عند المعتقلين الجنائيين، حتى أن قضاياهم، تغيب عن اهتمامات الرأي العام، ولا نعرف حتى عدد معتقلينا من هذا النوع في سجون الاحتلال.

لا يوجد فصل ميكانيكي، كما أوضحت في روايتي، بين عالمي الجنائيين، والسياسيين، ففي كثير من الأحيان، يتبادلان الأدوار، وهناك من اعتقل جنائيا، ليعود إلى السجن سياسيا. الاحتلال عندما يمارس سطوته، فإنها تشمل جميع من يقع عليهم الاحتلال. ولا يترك حتى للجنائيين أن يستمروا في عيش حيواتهم التحتية..!!، أعرف مثلا، لصوصا تحولوا إلى مقاومين، نفذوا عمليات ضد الاحتلال. وأعرف مناضلين تحولوا إلى لصوص، وأعرف مساجين جنائيين، في سجن المسكوبية، حالوا دون انهيارات مجموعة من الأسرى الأطفال في التحقيق القاسي في زنازين هذا السجن.

* كما تناولت أيضا السجان الذي سلبه عمله الطويل في السجون الروح الإنسانية بحيث صار التعذيب جزءاً من هويتهم وطبيعتهم.. وأشرت إلى هذه الازدواجية والتناقض بين حياتهم في السجن وحياتهم خارجه مع عائلاتهم..

** تطرقت إلى هذا الجانب ولكن ليس بشكل تقريري أو اتهامي ساذج فتلك مهمة السياسيين، ولكن من خلال ملاحظاتي على نفسيات السجانين، السجان وهو يسجن السجين، يصبح سجينا مثله.

بطل رواية المسكوبية يستهزئ بالمحقق، الذي يقول للأسير الذي يخضع للتعذيب، بأنه سيقضي ليلته مشبوحا، بينما المحقق سينام ليلتها في بيته هانئا. أي نفسية هذه التي يمكن أن تكون لشخص، يعلم أنه ترك إنسانا آخر معلقا يرتجف من البرد، ومن الخوف؟. ماذا يمكن أن يسمى ذلك في علم النفس؟

لا تتوفر لدي معلومات عن مصائر سجانين إسرائيليين مارسوا التعذيب في سجون الاحتلال، ولكن لا أظن أنهم يستطيعون أن يتخلصوا بسهولة عن ما يثقل ظهروهم.

تعرفت وأنا طفل، على مسن فلسطيني، عمل سجانًا في سجن عكا، في زمن الاحتلال البريطاني، واستمعت إلى حكاياته كـ "عبد مأمور" ويخيل إليّ الآن أنه عاش عمره لكي يجد تبريرا لحياته السابقة، ولو من خلال حكايته للطفل الصغير الذي كنته.

السجين والسجان، لا يكونا نفس الشخص، قبل وبعد تجربة السجن، أظن أن السجن، يسكن، ويتوطن النفوس، ويعيش فيها لفترة طويلة جدا، رغم مكابرة البعض وإنكارهم.

* من خلال قراءاتك.. كيف تقيم "أدب السجون" في فلسطين، شعرا ونثرا، وهل ترى أنه أعطى السجين حقه أو استطاع أن يقدم تجربته في السجن لاسيما ونحن نعيش تجربة متميزة للنضال الفلسطيني في السجون الإسرائيلية هذه الأيام..؟
** من الصعب بالنسبة لي إصدار أحكام قيمة في هذا الموضوع لسببين، الأول لأنني لست ناقدًا، والثاني صعوبة الاطلاع على كل ما صدر مما يصنف ضمن أدب السجون، ولكن من خلال ما اطلعت عليه، فإنني أرى أنه أقل بكثير من الملحمة الكبرى التي عاشها شعبنا الفلسطيني في السجون.

واعتقد أن تقديم تجربة حياتية مثل تجربة الحركة الأسيرة، يحتاج قبل أي شيء إلى الصدق، فلا وجود لأدب عظيم بدون الصدق، ولكنني سأغامر لأقول، ليس فقط عن أدب السجون ولكن عن معظم ما قرأته من أدب كتبه فلسطينيون، أنه يفتقد الكثير من الصدق.

وعودة لأدب السجون، أود أن أشير بأنني التقيت مؤخرا، أسيرات، من مختلف الفصائل، على هامش احتفال بهن تحدث فيه ثلاثة وزراء، وتحدثن بمرارة عن أن المجتمع يحتقرهن بكل ما في الكلمة من معنى بشع، ويحاسبهن على أمور لم تحدث، والمقصود، التحرش الجنسي بهن من قبل السجانين، أين مثل هذه القضية مثلا في أدب السجون؟.

لقد كتبت مؤخرا بعد حديثي مع الأسيرات عن أنهن ضحية العقد الجنسية لمجتمعنا، وتساءلت عن موقف المجتمع والفصائل التي تنظم النساء الفلسطينيات عن موقفها لو أن أسيرة تعرضت للتحرش فعلا أو حتى الاغتصاب؟. هل يمكن مثلا تناول تجربة الأسيرات إبداعيا دون التطرق لمشاكلهن المؤرقة مثل هذا النوع، والتي تحدد مصائرهن الشخصية؟.

المجتمع يحاسب المرأة، إذا تخلت عن خطيبها أو زوجها الأسير، ولكنه يشجع من طرف خفي، الخطيب أو الزوج الذي يتخلى عن الأسيرة.

ما زلنا نبتعد عن مساءلة قضايانا، وندفن رؤوسنا في الرمال، الوزراء كانوا يكذبون وهم يتحدثون عن بطولات الأسيرات اللواتي يردن حل قضاياهن الملحة، وربما لا يكون ذلك غريبًا وأقصد كذب الوزراء والسياسيين، ولكن ماذا عن الأدباء والأديبات؟ يبدو لي أن الجميع استمرأ الكذب. لذا فإننا نكتب أدبا لا يقرأه أحد. ولا يرقى إلى مستوى تجربتنا.

نحن لسنا أبطالا، نحن بشر، فعلنا مثلما يفعل البشر في أي مكان يمكن أن يتعرضوا فيه لظلم، حاولنا أن نقاوم الظلم، والاحتفاظ بإنسانيتنا، هل نجحنا في ذلك؟ ربما الأدب الحقيقي يحاول الإجابة عن ذلك، وليس ذلك النوع من الكتابات، الذي يُقدر عاليا تجارب العنتريات العربية. والمخلص لإرث طويل من بطولات السير الشعبية.

* سؤال أخير حول أدب السجون.. حيث يرى البعض أن الأدب العربي كله أدب سجون، لأن الأديب العربي مقيد، حتى وهو في بيته، بقيود فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية وفنية.. فما بالك بمن هو في السجن .. ما رأيك..؟
** قد يكون هذا تعريفا فضفاضا، ولكن لا أظنه صحيحا، في تجربة العيش تحت الاحتلال، فما بالك تجربة السجن، تختلف كثيرا عن الحياة والسجن في مجتمعات تحكمها أنظمة مستبدة، وقد تكون متساوقة مع الاحتلال. ورغم ذلك أقول، إنه لا يمكن المفاضلة بين سجن وسجن آخر، السجن سجن، حتى لو كان خمسة نجوم.

عموما أنا قرأت تجارب أدبية لكتاب جربوا السجون العربية منذ الستينات، وهي في معظمها تسجل حالات إنسانية بأساليب لافتة، رغم ما في بعضها من محاولات تهويل، وتصفية حسابات.

ولكنني استغربت مثلا ما تناوله كاتب كبير مثل عبد الرحمن منيف، في روايته (شرق المتوسط) التي أغفل عمدا تحديد مكان معين تجري فيه، وأظنه لو فعل ذلك، ربما لكانت روايته الجميلة، أكثر حميمية.




تاريخ الاضافة: 15-05-2012
طباعة