« الشعب يريد تحرير فلسطين »








نافذ أبو حسنة/ بيروت
تنطبق مقولة «مضحك مبكٍ» على تصرفات السلطة الفلسطينية في الآونة الأخيرة، من الحديث عن تعيين مواعيد للانتخابات البلدية والتشريعية والرئاسية، وصولاً إلى استبدال حكومة فياض، بحكومة فياض أيضاً، ومروراً باستقالة السيد صائب عريقات، حرصاً على الشفافية، وكمثال على تحمل المسؤولية، بعد «تسرب الوثائق من مكتبه».
تصديق الكذبة واللعبة الناقصة
يذهب عدد من المحللين إلى الربط على نحو آلي بين هذه الإجراءات المتلاحقة، وانتصار الثورتين التونسية والمصرية، وينتهي كثير منهم إلى اعتبار أن السلطة تعمد إلى سلسلة تحركات استباقية علها تتقي غضب الشارع المتصاعد، وخصوصاً أنها - وإن لم تكن دولة بالمعنى الجدي للكلمة- فيها من الفساد ومما يستدعي الغضب، أكثر مما لدى كثير من الدول.
من الواضح أن جانباً من هذا التحليل، يستند إلى أكاذيب السلطة ذاتها عن نفسها. فهي تثابر على الظهور بمظهر الدولة المكتملة النمو. ولم يكن ينقص هذه المثابرة، سوى ابتكارات سلام فياض عن «بناء الدولة تحت الاحتلال». وما بدأ لعبة خطيرة في خداع الواقع، تحول إلى عملية أكثر خطورة، أراد معها القائمون بها خلق الوهم بأن الدولة قائمة، أو أنها على أقل تقدير على وشك أن تصبح قائمة فعلاً.
لكن الربط بين إجراءات السلطة وانتصار الثورتين، يغفل عن جملة من الحقائق التي ربما تعمّد إغفالها، فللغضب على السلطة أسباب كثيرة، أقلها فسادها المستشري والمعمم كثقافة، روج لها المسؤول عن إعلام السلطة، ياسر عبد ربه حين قال للموظف المتهم بسرقة الوثائق الخاصة بالمفاوضات وبيعها للجزيرة: «صحتين على قلبه».فضلاً عن الفساد ثمّة أشياء كثيرة.
لقد خطفت أحداث الثورة الشعبية المصرية الرائعة. الاهتمام بتداعيات الوثائق التي كُشف عنها عبر قناة الجزيرة، والتي أظهرت حجم ما قام به المفاوضون الفلسطينيون من تنازلات مريعة، وبينت مدى الاستخفاف في التعامل مع قضايا كبرى وعلى درجة هائلة من الحساسية، على نحو القول بأن ما كُشف عنه كان مجرد دردشات.
ومع أن السلطة تعمدت القيام بعملية تجييش ضد الجزيرة، متهمة إياها بضرب المشروع الوطني وإحباط صمود المفاوضين الفلسطينيين، فإن أحداث الثورة المصرية، هي التي أوقفت تداعيات الكشف عن هذه الوثائق، ولكن إلى وقت قصير، إذ تدرك السلطة أن انتصار الثورة في مصر، وقبلها في تونس، سوف يعيد حضور هذه الوثائق إلى واجهة الأحداث من جديد، وفي ظرف فقدت فيه السلطة حاضناً أساسياً لها ممثلاً بنظام مبارك. كذلك فإنها تدرك أن القوى الفلسطينية التي أثارت تلك الوثائق غضباً شديداً لديها سوف تعاود التنبيه إلى خطورتها، وستدعو إلى البناء على واقعة هذا الكشف لمناقشة الحالة الفلسطينية برمتها.
ضمن هذا السياق يمكن فهم تلك المسرحية التي قضت فصولها باستقالة السيد عريقات من رئاسة دائرة المفاوضات، بسبب «ما أظهره تحقيق فلسطيني عن أن الوثائق تسربت من مكتبه». «وكفى الله المؤمنين القتال». يراد أن يقال إن ثمة من عوقب في موضوع الوثائق، وكأن الأمر متصل بالتسريب وكيفية حدوثه، لا بالمضمون الخطير لتلك الوثائق.
لم تشأ السلطة، ومن نصح عريقات بهذه الخطوة، إكمال اللعبة حتى نهايتها المنطقية، من قبيل إعلان عريقات استقالته من كل مهامه، أو اعتزال العمل السياسي. (ونظن أن هذا لن يكون ذا أثر سيئ على المشروع الوطني) لكن واقع الحال أن الرجل استقال من دائرة المفاوضات، وبقيت عضويته في اللجنة التنفيذية، وفي اللجنة المركزية لحركة فتح. وربما نُقل إلى دائرة المفاوضات السرية. وإذا كان المقصود بالخطوة امتصاص الغضب، فالواقع أنها تزيده.
في موضوع الحكومة، معلوم أن الحديث عن تغيير في حكومة فياض يعود إلى وقت طويل، ويتصل برغبة عدد من قيادات فتح، في دخول الحكومة، وشغل مواقع وزارية فيها. ومن الملاحظ أن كل الحملات التي استهدفت حكومة فياض تجاوزت رئيس الحكومة تلك، إلى المطالبة بتعديل في تركيبتها. فالمطالبون يعلمون أن قرار بقاء فياض من عدمه ليس في رام الله، بل في واشنطن، ولدى المانحين الذين يشترطون بقاءه، للاستمرار في تقديم الأموال للسلطة.
ومما يتردد أن عباس استجاب للطلبات المقدمة من فتح، لكسب مؤيدين له فيها، في الخلاف مع دحلان، وأيضاً في مواجهة الاستياء المتصاعد في صفوف الحركة. وما دامت المسألة قد وقعت ليقدم الأمر باعتباره حالة إصلاحية، فتستمر خدعة أن السلطة سلطة فعلية، ويجري القول: إنها تقوم بإصلاحات أيضاً. وهنا لم تكتمل اللعبة أيضاً. فإرضاء بعض المستوزرين من قيادات فتح، والفصائل التي لم يعد بعضها قادراً على تحقيق نصاب انعقاد هيئاته القيادية، لن يحل المشكلة، ولن يذهب بالغضب الناتج من الفساد والتنسيق الأمني وفضائح الوثائق.
ثم جاء الحديث عن إجراء انتخابات من كل الأنواع (محلية وتشريعية ورئاسية)، والسلطة أول من يعلم أن تنفيذ ما تعد به يقارب حدود الاستحالة، وتعلم أيضاً أن هناك الكثير مما يجب القيام به قبل الحديث عن الانتخابات.
وقبل كل ذلك وبعده، ومهما كانت المقاصد والأهداف الحقيقية من وراء كل ما تقوم به السلطة، أو قامت به من إجراءات، فهل هذا هو المطلوب حقاً؟
الشعب يريد..
لنسجل قبل الإجابة عن السؤال، أن الشعب المصري أدهش العالم بثورة امتدت لثمانية عشر يوماً، ونجحت في إسقاط نظام طاغية امتد لثلاثين عاماً. لم يكن الإنجاز وحده هو المدهش، بل كذلك الشعارات التي استخدمها الثوار المصريون، والتي حكت وجعهم وحلمهم، ورؤيتهم للنظام، وشكل الخلاص. وكان بعض هذه الشعارات بالغ الإيجاز وبالغ الدقة، لاذعاً، ويختزل تحليلاً كاملاً بلغة الكتاب والمحللين وأهل السياسة. وقد سبق المصريين في هذا الإنجاز الشعب التونسي بثورة منتصرة أيضاً، وبشعارات مشابهة.
ولعله سيأتي الوقت الذي يتفرغ فيه الباحثون لدرس شعارات هاتين الثورتين وديناميات عملهما وانتصارهما. (جرى بالفعل تأسيس وحدة دراسات الثورة المصرية مركز الأهرام للدراسات).
كان المدخل الأساسي لهذه الشعارات جميعاً: «الشعب يريد..». وفي مصر وفي تونس، ردد الثوار من بين الشعارات المتعددة التي هتفوا بها شعاراً يقول: «الشعب يريد تحرير فلسطين». والشعار كما كل الشعارات التي أطلقتها جماهير الثورتين التونسية والمصرية، يصدر عن إحساس شعبي عميق وصادق في وقت واحد. وهو كما شعارات الثورتين الأخرى، قيد العمل، وليس مجرد صرخة تذوي فعاليتها مع الوقت.
قد يذهب البعض إلى الحديث عن فورة عاطفية، عكست رغبة لدى تلك الجماهير التي استشعرت قوتها. والأجدى أن لا يكون جدال في هذا الأمر. ولكن إلى وقت قريب كان كثير من منظري السياسة يسخرون من كلمة شعب، أو كلمة جماهير، متسائلين: أين هو ما تتحدثون عنه؟ وعلى كل حال، فإن الأمر بعد انتصار الثورة في تونس ومصر هو غير ما قبلهما. وقد أثبتت جماهير الشعب أنها قادرة وتستطيع الفعل. كذلك بينت مرة أخرى مكانة فلسطين في قلوب أبناء الأمة. ثم إن مضي بعض الوقت سوف يكشف عن المناخ الجديد الذي ينشأ حول فلسطين، وتكفي متابعة ما يعلق به قادة دولة الاحتلال، لنتبين طبيعة المرحلة المقبلة.
لكن ما ينبغي التساؤل عنه الآن هو: هل يريد الشعب في فلسطين غير ما يريده الشعب في تونس ومصر؟ هل يريد الشعب في تونس ومصر تحرير فلسطين؟ وهل يريد الشعب في فلسطين تغيير وزراء في حكومة فياض، واستقالة صائب عريقات، وإجراء انتخابات متنوعة؟
يقاوم الشعب الفلسطيني العدوان الصهيوني على أرضه منذ أكثر من قرن. وقد فجر ثورات وانتفاضات متلاحقة، وكان سباقاً في ابتكار وسائل مقاومة شعبية في ظروف شديدة التعقيد. وستظل انتفاضته الشعبية الهائلة، عام سبعة وثمانين من القرن الماضي، وانتفاضته الثانية عام ألفين، نموذجاً في الكفاح الشعبي الوطني المقاوم للاحتلال.
اغتال أوسلو الانتفاضة الأولى. وجرى اغتيال الانتفاضة الثانية من خلال ورشة عمل عربية ودولية كبيرة، كان نظام مبارك من أبرز الناشطين فيها. واليوم تجري محاولة اغتيال كفاح الشعب الفلسطيني من خلال الخداع، ومحاولات تسويق الأوهام، وتبديد الحقوق الوطنية الأساسية، وكذلك من خلال الحصار، وتأبيد الانقسام.
وواقع الحال أن الألاعيب التي تمارسها السلطة اليوم، هي في سياق مواصلة عملية الاغتيال المشار إليها. فالحديث عن حكومة جديدة وانتخابات يجري مع استمرار التنسيق الأمني، ومع مواصلة اعتقال المقاومين، وحتى المعترضين على السياسات البائسة، وتستمر كذلك المراهنة على تسوية، لم تأت إلا بالكوارث، ويستمر انتهاك الحقوق الأساسية لشعبنا، وآخر ما سجل على هذا الصعيد موافقة السلطة على تعويض مستوطنين صهاينة قتلوا على يد رجال المقاومة. وبمثل هذا التعويض تبدو المقاومة فعلاً إجرامياً ينبغي التعويض عنه، بدل القول بأن هؤلاء المستوطنين يحتلون أرضنا ويرتكبون أفظع الجرائم بحق أبناء شعبنا.
لا يتسع الوقت اليوم لكي تقدم السلطة البائسة نفسها كدولة، وتحاول تسويق الأكاذيب والألعاب غير المتقنة على الشعب الفلسطيني. الوقت المتاح لها (لاتقاء غضب حقيقي يعتمل في نفوس الفلسطينيين جميعاً، ومعهم أبناء أمتهم الثائرة) يجب أن يستغل لوقف التنسيق الأمني، وإلغاء الاتفاق العار، وإعلان انتهاء هذه السلطة التي أصبحت عبئاً كبيراً على شعبنا، والتوجه نحو إعادة بناء الوضع الوطني على أساس مقاوم للاحتلال، حتى كنسه قبل أن تكنس مع تنسيقها واتفاقها ومشاريع الدولة تحت الاحتلال.
ما هو غير ذلك، مجرد لعب في الوقت الضائع، والشعب يريد...


» تاريخ النشر: 12-03-2011
» تاريخ الحفظ:
» رابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان
.:: http://palteachers.com/ ::.