.

عرض مقابلة :روحي ياسين الخالدي (1864-1913م)

  الصفحة الرئيسية » ركن المقابلات

روحي ياسين الخالدي (1864-1913م)

المفكر روحي الخالدي

رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين وأبرز المناهضين للحركة الصهيونية في عصره
  بقلم : أوس داوود يعقوب / خاص بمؤسسة القدس للثقافة والتراث
ينتمي المفكر والمؤرخ والسياسي المقدسي روحي ياسين الخالدي (1864 ـ 1913م)، إلى جيل المثقفين التنويريين الأوائل في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وهو أحد أعمدة النهضة العربية في فلسطين (مثل عمّه يوسف ضياء الدين باشا) في أواخر العهد العثماني. وكان مثقّفاً واسع الاطلاع، طارحاً على نفسه مهمة نشر الوعي بالحداثة والتعريف بالأسس التي تقوم عليها والوسائل اللازمة لبلوغها.
شُهرَّ (الخالدي) بخطابه التنويري المنفتح، وإجادته لعدد من اللغات الأجنبية منها (التركية والعبرية والفرنسية) ما مكنه من الاطلاع على السياسات الدولية وإدراك المطامع الأجنبية في البلدان العربية، وخفايا الحركة الصهيونية، وهو من أوائل رجالات فلسطين الذين تنبهوا إلى الخطر الصهيوني والأطماع اليهودية في فلسطين. وحول ذلك ألقى كثيرا من الخطب في مجلس النواب العثماني ونشر المقالات والدراسات.
كما تصدى مع النواب العرب الآخرين في مجلس (المبعوثان) لنواب الترك الاتحاديين، وهاجم مخططاتهم وأعمالهم ضد العرب وأمانيهم.
وهو أول من كتب عن «المسألة الشرقية من العرب»، وذلك في صبغة السؤال التالي: «هل تحافظ أوربا على بقاء المملكة العثمانية أو تتركها تنقرض وتزول؟».(2).
وتشير كتبه المطبوعة والمخطوطة إلى تنوّع اهتماماته الأدبية والسياسية والتاريخية. وقد وصفه الدكتور ناصر الدين الأسد في كتابه بأنّه «رائد البحث التاريخي الحديث في فلسطين».(3).
وأضاف آخرون أنّه كان رائداً في مجال دراسة الأدب العربي المقارن. وقد ظهرت الطبعة الأولى من كتابه «تاريخ الأدب عند الإفرنج والعرب وفيكتور هوجو» عام 1904م.
وفي دراسة قيمة للبحاثة الأكاديمي الدكتور فيصل درّاج بعنوان «المثقف الفلسطيني وقراءة الصهيونية» يَذكر (الخالدي) في أكثر من موضع، قائلاً:
«يعدُّ (الخالدي) أحد المثقفين الذين صاغوا بكلماتهم، ذاكرة وطنية فلسطينية، قرأت ولادة المشروع الصهيوني بقلق كبير واقترحت سبل مواجهته. وقد كان روحي، الأنيق في ثقافته وسلوكه، يسجل ملاحظاته في مستوطنات يهودية يعمل فيها «مهاجر» حسن الإدارة والتنظيم، ويكتب كلمات غاضبة عن عربي تداعى يبدد أمواله ماجناً على تخوم الصحراء. وقد تأثر الخالدي بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم من رجالات الفكر التنويري العربي، ودعاة إصلاح المجتمع وتجديد الفكر والانفتاح على الثقافة الكونية. وقدّم (الخالدي) خطاباً عقلانياً محسوباً، تُباطنه دعوة هامسة إلى حداثة اجتماعية ضرورية، بلغة أنيقة وبعيدة عن التعقيد.
وكان أن اتصل (الخالدي) بـ (رضا الصلح) في بيروت و(شكري العسلي) في دمشق، لإنشاء عمل عربي موحّد يواجه «الهجرة اليهودية»، بلغة زاجرة، غاضبة، اتسمت بالمقارنة بين اليقظة اليهودية والغفلة العربية .. تلك المقارنة المفروضة والمرفوضة بين فلسطين المفوّضة إرثها العثماني المجدد استعمارياً ومشروع صهيوني مزود بخبرات وحمايات أوروبية متعددة. وقد قرأ (الخالدي) التناقض بين الصهيونية وعروبة فلسطين، في زمن كانت فيه الأخيرة جزءاً من بلاد الشام».(4).

سليل عائلة عريقة :
من المؤرخين من ينسب أسرة (الخالدي) إلى قرية (الدير) بالقرب من (مردة) من قرى نابلس بالقرب من بلدتي (جماعين وزيتا)، ومنهم من ينسبها إلى (الدير) بحارة المرداويين من بيت المقدس. ويؤكد المفكر الدكتور وليد الخالدي أنهم «ينسبون إلى جدهم خالد بن الوليد (رضي الله عنه)». وتشير المصادر التاريخية أن نسب المرحوم روحي الخالدي هو كالتالي: «روحي بن ياسين بن محمد علي بن محمد بن خليل بن صنع الله بن خليل بن شرف الدين بن عبد الله بن طه بن صالح بن يحيى بن نجم الدين محمد بن زين الدين عبد اللطيف بن شمس الدين محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي بكر بن مصلح بن أبي بكر بن سعد بن عبد الله مصلح بن الديري».(5).
وُلِد (روحي الخالدي) عام 1864م، في مدينة القدس الشريف في محلة باب السلسلة ـ أحد أبواب الحرم القدسي الشريف ـ حيث تجمُّع منازل آل الخالدي.
وفي عهد (محمد راشد باشا) والي سورية الشهير، انتخب المرحوم (ياسين بن محمد علي الخالدي) والد المترجم له، عضواً عن القدس في «المجلس العمومي» ببيروت، ثم عين لنيابة طرابلس الشام، وكان يصطحب أفراد أسرته حيثما اتجه، واستقر هناك و(روحي) في عدادهم.(6).
ويبدو أن (ياسين الخالدي) كان عضوا بارزاً في «حزب الإصلاح» الذي كان (محمد راشد باشا) أحد أعضائه. ولما عزل (راشد باشا) من ولاية سورية تزعزع مركز أنصاره والمنتسبين إليه، فعاد (ياسين) إلى القدس، والتحق روحي بالكتاتيب والمدارس الابتدائية والأميرية، ولما تولى مدحت (باشا) ولاية سورية عام 1295ھ/1878م، أخذ يجمع حوله من يثق بإخلاصهم ونزاهتهم ويعيدهم إلى مراكزهم الأصلية، فأرسل المرحوم (ياسين الخالدي) قاضياً شرعياً في مدينة نابلس ، وادخل (روحي) «المكتب الرشدي» فيها. وحين نقل قاضياً لطرابلس الشام التحق روحي بـ «المدرسة الوطنية» التي أنشأها عهد ذاك الشيخ (حسين الجسر) في مدينة طرابلس، وادخل فيها وسائل التعليم الحديثة.(7).
وفي عام 1297ھـ/1880م سافر (روحي) مع عمّه (عبد الرحمن نافذ أفندي الخالدي) إلى الآستانة، وهناك قابل شيخ الإسلام (عرياني زاده أحمد أسعد أفندي)، الذي شجّعه على العلم فأنعم عليه برتبة «رؤوس بروسه»، وهو لا يزال تلميذاً في السادسة عشرة من عمره. وهي أول درجة في سلم المرتب العلمية، وكسوتها جبة زرقاء مطرزة بالقصب عند «القبة»، وعمامة عليها شريط مقصب، ويلقب صاحب هذه الرتبة بـ «قدوة العلماء المحققين» ويعد مدرساً في مدرسة (رابعة الخير) في «بروسه».
عاد (روحي) إلى القدس بعد رحلة قصيرة إلى الآستانة، مثابراً على زيادة ثقافته فأخذ يحضر الدروس في المسجد الأقصى، وتلقى فيه علوم الفقه والتوحيد والحديث والنحو والصرف والمنطق والبيان، وتردّد على مدرسة «الأليانس» ومدرسة الرهبان البيض، «الصلاحية»، ليتقن اللغة الفرنسية. ثم التحق بالمدرسة السلطانية في بيروت، وهي التي كان يديرها الشيخ (حسين الجسر)، وظلّ فيها إلى حين انحلال المدرسة، فعاد إلى القدس وواصل حضور حلقات الدرس في المسجد الأقصى. وعُيّن في ذلك الوقت موظفاً في دوائر العدلية، لكنه كان دائما ينزع إلى استكمال دراسته، ويطمح إلى السفر إلى الآستانة ليلتحق بإحدى مدارسها العالية. وجاهد في سبيل تحقيق أمنيته، لان والديه لم يرضيا بذلك حرصاً على بقائه معهما، وحاولا منعه من السفر والاغتراب، إلا أنه حاول ذات يوم أن يسافر سراً على غير رغبة منهما، فاشترى تذكرة السفر، وذهب إلى يافا ليبحر منها وحين وصل ظهر الباخرة اكره على الرجوع، فعُيّن رئيساً لكتّاب محكمة بداية غزة.
وبعد فترة وجيزة قرر (روحي) رفض الوظيفة، وكان له أن التحق بـ «المكتب الملكيّ السلطاني الشاهاني» في الآستانة عام 1305ھ/1887م. وأمضى في ذلك المعهد للعلوم السياسية والإدارة ست سنوات، حاز في نهايتها، عام 1893م، على شهادة التخرج.
 ويبدو أن والديه ـ ولا سيما والدته ـ ظلا يعارضان سفره حتى أنه أشار إلى ذلك بعد نحو خمس عشرة عاماً من هذه الحادثة في آخر كتابه «تاريخ علم الأدب عند الإفرنج والعرب»، وذلك قوله: «حررت هذا الكتاب في بوردو عام 1902م، وقدمته لأمي أيضا ببعض ما لها علي من الحقوق، ورجائي أن لا تحسب اغترابي عنها من العقوق».(8).
ويصف لنا الراحل (روحي الخالدي) جانباً من حياته في «المكتب السلطاني الملكي»، قائلاً: «كنت في سنة 1889م في الآستانة العلية تلميذاً في المكتب الملكي الشاهاني وكان لي رفيق هو عندي بمنزلة الصديق بل والشقيق، فناولني يوماً من الأيام كتاباً عنوانه «أسس انقلاب» تأليف صاحب العطوفة مدحت أفندي مدير جريدة «ترجمان حقيقت» التركية التي تصدر في مركز الخلافة الإسلامية، وأوصاني بالحرص عليه وتلاوته سراً، لأنه لم يكن يسمح لنا بقراءة الكتب التي ليست رسمية، ولا سيما ما يتعلق منها بمسائل الحاضرة السياسية، فحفظته على صدري بين القميصين، وصرت أطالعه كلما جن الليل ورقدت العيون وانقطعت الحركة واستتب السكون وكان سريري في (القاووش) نمرة (3) مرقماً بعدد (73) وقريباً من فانوس الزيت المعلق وسط الغرفة المشتملة على نيف وثلاثين سريراً. فبينما كنت ذات ليلة لتصفح الكتاب، سمع رئيس المبصرين، وهو يتجسس أحوال الطلبة، صوت تقليب الورق، ولعل حركته الخفيفة في تلك الليلة الظلماء أخلت بالسكون المستولي على ذلك البناء، فجاء على أثر الصدى وعثر على الكتاب وضبطه مني، وفي الصباح جازاني على ما اقترفته يداي، وتوبني عن العود إلى فعلتي».(9).
بعد تخرجه عاد (روحي) إلى القدس، حيث عُيّن معلماً في مكتبها الإعدادي لكنّه رأى أنّه أجدر بوظيفة أعلى فعاد إلى الآستانة، ومنها سافر إلى باريس، ثم عاد ثانية إلى العاصمة العثمانية، وأخذ يتردّد فيها على مجلس المصلح الشيخ (جمال الدين الأفغاني).(10).
وقال يذكر حديثاً بينهما: «دخلت يوماً على السيد جمال الدين الأفغاني وهو في قصر لطيف على بابه الخدم، وتأتيه سفرة من المطبخ العامر فقال: وما فائدتي بهذا القصر والخدم والسفرة وأنا إذا اشتهيت أكلة (بفتيك)، أو نشر فكرة في جريدة، أو التنزه في ناحية من المدينة لا أستطيع، أيهنأ عيش الإنسان بغير الحرية».(11).
في هذه الفترة اشتدّت مراقبة الجواسيس الذين كانوا يحضرون مجلس الشيخ الأفغاني، وفي أحد هذه المجالس حضر مراسل جريدة (التايمز)، فدار معه حديث أوصله الجواسيس إلى "المابين"، ففرّ إلى باريس هاجرا البلاد العثمانية،  والتحق بجامعة السوربون، ودرس فيها فلسفة العلوم الإسلامية والآداب الشرقية. وفي السوربون تعرّف إلى كبار المستشرقين. ثم عُيّن مدرّساً في جمعية نشر اللغات الأجنبية في باريس عام 1897م، ودُعِي إلى الاشتراك في مؤتمرات المستشرقين وإلقاء المحاضرات في اجتماعاتهم، وقد كان أول مثقف عربي يلقي محاضرات بالعربية في ندوات باريس.
وبعد سنة أقامها في باريس عاد إلى الآستانة، وصدرت الإرادة السنيّة في 8 جمادي الآخرة عام 1316ھ/24 تشرين الأول (أكتوبر) 1898م بتعيينه قنصلاً عاماً في مدينة «بوردو» الفرنسية وتوابعها، فرضيت به حكومة الجمهورية الفرنسية، وكانت قد رفضت بعض الذين رشحوا قبله لهذا المنصب. وقد أصبح رئيساً لجمعية القناصل في تلك المدينة، وعددهم ستة وأربعون قنصلاً، فكان ينوب عنهم في الاحتفالات التي يتعذر وجودهم فيها جميعاً، ويستقبل رئيس الجمهورية وكبار الوزراء والعلماء عند مرورهم بـ «بوردو».(12).
ولما أقيم المعرض البحري العام في «بوردو» عام 1908م بمناسبة مرور مئة عام على تسير البواخر، كان (روحي) من المشاركين في إقامته، فأهدته بلدية «بوردو» وإدارة المعهد تذكاراً، ومنحته الحكومة الفرنسية وسام (نخلة المعارف) الذهبية ووسام فرقة الشرف (لجيون دونور).
وبقِيَ قنصلاً عاماً نحو عشرة أعوام، إلى حين إعلان الدستور عام 1908م، وكان خلالها ينشر أبحاثه ودراساته في الصحف العربية، ويكتفي بتوقيع (المقدسي)، أو بنشرها من دون توقيع، خوفاً من ردة فعل السلطات العثمانية الحميدية.
وعقب الانقلاب على السلطان (عبد الحميد) وإعلان الدستور في تموز (يوليو) 1908م، رجع إلى القدس فانتخبه أهلها نائباً عنهم في مجلس النواب العثماني «المبعوثان» في تشرين الثاني (نوفمبر) 1908م.
كما انتخبوا سعيد بك الحسيني نائباً. وفي كتابه «سورية والعهد العثماني» كتب يوسف بك الحكيم يقول: «كان نائبا القدس في مجلس المبعوثان: (سعيد بك الحسيني) و(روحي بك الخالدي) يتمتعان بثقة جميع المواطنين على اختلاف طبقاتهم، ومن عالي مزاياهما التي يرددها الناس انه لم يبدر منهما في وقت ما أي تدخل في شؤون القضاء».
وكتب مراسل جريدة «المؤيد» في القدس، الشيخ (علي الريماوي)، بتاريخ 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1908م ما يلي: «نال أكثرية الأصوات عندنا في انتخابات مجلس المبعوثان، ثلاثة متفق على أنهم أفضل الموجودين، وهم أصحاب السعادة والعزة: (روحي أفندي الخالدي)، قنصل الدولة الجنرال في «بوردو»، و(سعيد أفندي الحسيني)، رئيس بلدية القدس السابق، و(حافظ بك السعيد)، من أعيان يافا».
وفي مقالة للكاتب المصري الكبير (جرجي زيدان) بعنوان: «نوابنا في مجلس المبعوثان» نشرها في مجلة «الهلال» في الأول من كانون الأول (ديسمبر) 1908م ذكر فيها (روحي الخالدي) فقال: «وقد عرفنا أيضاً من نوابنا أرباب القلم في مجلس المبعوثان صديقنا روحي بك الخالدي صاحب مقالة (الانقلاب العثماني) في هذا «الهلال». ويكفي الاطّلاع عليها لمعرفة سعة علمه في أحوال الدولة ودخائل سياستها. وقد عرفه القراء من قبْل باسم (المقدسي) وكذلك سمّى نفسه في كتابه «تاريخ علم الأدب»، الذي نُشِر على حدة، غير مقالاته العديدة في المواضيع المختلفة. وكلّها أبحاث جليلة تدلّ على علمٍ واسعٍ ونظَرٍ صحيح مع إخلاصٍ في البحث. وكان القراء قبل أنْ يعرفوا اسمه يعجبون بعلمه وفضله ويسألوننا عن حقيقة اسمه، ولم يكنْ يأذن لنا بإذاعة ذلك لأنّه كان قنصلاً جنرالاً للدولة العلية في «بوردو» في فرنسا. ومع اعتدال لهجته وتجنّبه الطعن والقرص فقد كان يخاف تأويل أقواله ولا تطاوعه حميته على السكوت ففضّل كتمان اسمه».(13).

مواقفه الوطنية ومناهضة الصهيونية:
كان (روحي الخالدي) عضواً في جمعية «الاتحاد والترقي»، فكان مؤيّداً للحرية والدستور، ليبرالياً في أفكاره بصورة عامة. وتنبّه إلى المخاطر الصهيونية، وقد عبّر عن مقاومته لنشاطها في فلسطين في مناسبات ومواقف مختلفة. ففي مقابلةٍ صحفية مع الجريدة العبرية (هتسفي) ـ ومعناها بالعربية (الظبي) ـ في أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) 1909م، عبّر (الخالدي) عن مقاومته المبدئية للحركة الصهيونية ونشاطها الاستيطاني في فلسطين، وحذّر من استمرار النشاط الصهيوني، مبيناً أن الاستيطان المكثّف قد يؤدّي في المستقبل إلى طرد الفلسطينيين، أهالي البلد الأصليين، من بلدهم: «لسنا مدينين لكم بشيء فقد فتحنا هذه البلاد من البيزنطيين وليس منكم»، بتلك الكلمات خاطب الصهاينة من على صحيفة جريدتهم العبرية في ذلك الوقت المبكر من بداية الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني.(14).
وينقل لنا مؤلف كتاب «العرب والترك في العهد الدستوري العثماني» مضمون أحد خطابات روحي (الخالدي) في البرلمان عام 1911، فيقول: «وألقى خطاباً طويلاً كشف فيه عن أماني اليهود في استعادة مُلْك فلسطين. ثم أخرج من  جيبه ورقةً تلا منها نصّ رسالة كتبت بقلم (أوسيشكين) أحد أركان الحركة الصهيونية، يبيّن فيها الوسائل الواجب أنْ يأخذ الصهاينة بها كي يبلغوا أمانيهم وهي: نيل الميزة والأفضلية في فلسطين بواسطة الأموال وتوحيد آمال (الإسرائيليين) وجمع شتاتهم، وإنماء روح الوطنية في قلوبهم واستخدام السياسة لبلوغ الأمنية السامية. واستنتج (الخالدي) من ذلك أن الصهاينة لا يريدون أقلّ من أمة لهم في فلسطين واستيطان أرضها. ثم نبّه إلى ازدياد عددهم حتى أصبح في (متصرفية القدس) وحدها مئة ألف يهودي. وأنّ أغنياءَهم ابتاعوا لهم نحو مائة ألف دونم، وأنّ القوانين التي سنّتها الحكومة لهجرتهم وإيجاد جواز السفر الأحمر للأجانب منهم لم تنفعْ في منع هجرتهم إلى فلسطين لأنها لم تُنفّذ. وأمّا الباقون من مهاجري أوروبا، فأنهم أسّسوا بنكاً باسم بنك الاستعمار اليهودي».(15).
ولما حُلّ المجلس عام 1912م، عاد (روحي) إلى القدس. وعندما أعيدت انتخابات مجلس المبعوثان، أعاد أهل القدس انتخابه. فسافر إلى الآستانة ثانية، واستمرّ في تمثيل (متصرفية القدس) ومصالح سكانها في البرلمان على خير وجه.
واختير (روحي) في المجلس نائباً للرئيس، فكان من الأعضاء البارزين في ذلك العهد.
ولـ (الخالدي) دراسة هامة بعنوان: «مقدمة في المسألة الصهيونية»، وهي تعدُّ اليوم وثيقة تاريخية، ويلاحظ من قراءة الدراسة أن صاحبها كتبها بعد العام 1908م وانتهى من خطوطها العامة في العام 1912م، وأنه قام بزيارة بعض المغتصبات الصهيونية في العام 1913م للاطلاع ميدانياً على تطور الأوضاع ونقل شكاوى المواطنين الفلسطينيين ورصد معاناتهم وتسجيل أخبارهم.
ويبدو أن (الخالدي) كان في صدد تطوير دراسته القيمة في معلوماتها وأرقامها وجداولها، إلا أن الأجل وافاه قبل اكتمال مشروعه إذ توفي بعد تلك الزيارة بقليل فانتهت الدراسة عند «جمعية عزرا» وهي كلمة عبرانية معناها (المعاونة) وتسمى بالألمانية (خلفس فراين ديردويجن يودن) أي «جمعية معاونة اليهود الألمان».
وتكمن أهمية هذه الدراسة في النقاط التالية:
أولاً: أنها كتبت بعد انقلاب جمعية «الاتحاد والترقي» على السلطان (عبد الحميد).
ثانياً: كونها تغطي تفاصيل دقيقة عن أخبار الحركة الصهيونية وسياسة الاستيطان في فلسطين في فترة شديدة التعقيد حين كانت أهداف الصهاينة غير واضحة للكثير من أهالي فلسطين والسلطنة.
ثالثاً: لأنها تعطي فكرة واضحة عن أساليب الحركة الصهيونية في بدايات تأسيسها بذريعة نهوض اللاسامية في روسيا وأوروبا الشرقية قبل انتقالها إلى أوروبا الغربية.
رابعاً: إنّ أهم ما في الدراسة أنها وثيقة تكشف عن إحساس تاريخي عند سياسي ومثقف فلسطيني التقط مخاطر المشروع الصهيوني قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى وصدور (وعد بلفور) وافتضاح أمر اتفاقات (سايكس _ بيكو).(16).
وعن المكانة التي احتلها (الخالدي) في المشهد الثقافي الفلسطيني المناهض للحركة الصهيونية، ودوره الوطني الرائد في مواجهتها يرى الدكتور درّاج في دراسته المذكورة أعلاه، أن «الاسم الأول الذي تصافحه الذاكرة الفلسطينية وهي ترى إلى موروثها الثقافي الوطني، الذي قاوم الصهيوني، هو (روحي الخالدي)».
ويشير د. درّاج إلى أن هذا (المثقف المقدسي) «أخذ في تعامله مع الصهيونية، بأطروحتين لهما ملامح فكرية أوروبية واضحة. ترى الأطروحة الأولى أن تاريخ الصهيونية هو تاريخ اللاسامية، أي تاريخ العداء لليهود، وتقول ثانيهما إن المشروع الصهيوني أثر لصعود الحركات القومية الحديثة في أوروبا، وتحققّها في كيانات سياسية مستقلة».
غير أن د. درّاج ينتقد ما ذهب إليه (الخالدي) في طرحه حول تاريخ اللاسامية، ومجمل رؤيته للمشروع الصهيوني، يقول د. درّاج: « يشوب الخطأ الأطروحة الأولى في أكثر من اتجاهٍ، فهي تعتبر اللاسامية ظاهرة حديثة، وهو افتراض خاطئ، أو ترى إلى الصهيونية مشروعاً قديماً، وهو افتراض لا يقل خطأ، تخلط الأطروحة بين تاريخين مختلفين معطية للمشروع الحديث، أي الصهيونية، تبريراً صادراً عن تاريخ قديم. ويرجع اعتلال النظر إلى التعامل مع الصهيونية كظاهرة مكتفية بذاتها، تدور أسبابها ونتائجها في متخيّل يهودي لا يحتاج إلى غيره. لم يربط (الخالدي)، الذي قرأ (فيكتور هوجو)، بين المتخيّل اليهودي والاقتراحات الاستعمارية الأوروبية، الممتدة من (نابليون) إلى اللورد (شافتسيري)، ومن الأخير إلى (ونستون تشرشل). فتاريخ اللاسامية بعيد ومعقّد، لا يأتلف مع الدعوة الصهيونية التي ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر».(19).
يضيف د. درّاج: «ليست أطروحة الخالدي الثانية أكثر سلامة من الأولى. فقد جاء الوعي القومي الأوروبي أثراً للثورة البرجوازية، التي حطّمت اللاهوت وأساطير الأصول المقدسة. وعلى نقيض هذا، ولد «الوعي القومي اليهودي» لاهوتياً، يرتكن إلى الأساطير ويستولد الحاضر التاريخي من ماضٍ فوق التاريخ. بل أن هذا الوعي، القائل بالتحرر الذاتي، جاء في زمن تاريخي، يعد بتحرير اليهود وغير اليهود أيضاً. كأن الوعي القومي اليهودي كان يهرب من التحرّر إلى الانغلاق، مدّعياً أنه ذاهب إلى التحرّر الكامل. ولهذا، تكون العلاقة الموضوعية بين القوميات الأوروبية الحديثة والقومية اليهودية «الناشئة» غائبة ومفككة القوام. شكّلت القوميات الأوروبية وقائع حداثية في جملة من الوقائع الحداثية، وهي تحتفي بالماضي والأساطير و«شعب الله المختار» الذي يَفْضُل غيره من الشعوب، بل أن الصهيونية وهي تنقلب على العقل والإنسان والتاريخ، وهي مراجع بورجوازية بامتياز، مثلت رداً عاصفاً على العقل الحديث وما يرتبط به، وعلى هذا، فإن الأطروحتين السابقتين تخطئان «حقيقة صهيونية» تستمد دلالتها من سياق أوروبي منتصر، كوني في اتجاه عنصري في اتجاه آخر، وترتاح إلى لاهوت يلغي التاريخ وهو يقول به»
ويرى د. درّاج أن (الخالدي) «لم يعط تحليلاً مصيباً، حين رأى الصهيونية «ظاهرة طبيعية»، تَنْعَمُ بـ «العطف الأوروبي» ولا تفقد استقلالها الذاتي، وهذا ما جعل دفاعه الدؤوب عن فلسطين أخلاقياً، فلا يجوز لإنسان أن يطرد آخر من أرضه، ووطنياً، إذ على الفلسطيني العربي أن يقاتل من أجل الأرض التي تحدّد هويته. واتكاءً على منظور أخلاقي ـ وطني، رأى الخالدي في المعرفة والارتقاء والتنظيم رداً موافقاً على المشروع الصهيوني، الذي حمل معه إلى أرض فلسطين خبرة أوروبية حديثة كاملة. ويمكن تفسير موقف الخالدي، الحاسم وطنياً والقلق نظرياً، بسببين أو بكلاهما، عمله الدبلوماسي والسياسي، كقنصل للدولة العلية في بوردو وكنائب في «المبعوثان» في اسطنبول. وتنافس الدول الأوروبية في دعم «الهجرة اليهودية»، كما لو كانت ترى في المشروع الصهيوني ضرورة إنسانية خالصة، قبل أن تمدّه بريطانيا بالتبرير النظري وبالوسائل العلمية التي تصيّره حقيقة مجسدة».
 « رجوع   الزوار: 1567

تاريخ الاضافة: 04-07-2014

.

التعليقات : 0 تعليق

« إضافة مشاركة »

اسمك
ايميلك
تعليقك
5 + 2 = أدخل الناتج

.

جديد قسم ركن المقابلات

رحيل أم عزيز الديراوي.. رمز قضية اللاجئين الفلسطينيين المفقودين بلبنان

"المقروطة".. تراث فلسطيني أصيل

عندما اقتلعت العاصفة خيمة طرفة دخلول في ليلة عرسها ورحلة العذاب اثناء النكبة

أم صالح.. لبنانية تقود العمل النسوي في القدس منذ 70 عاما

الفنان التشكيلي محمد نوح ياسين يرسم عذابات اللاجئ الفلسطيني بخيط ومسمار

القائمة الرئيسية

التاريخ - الساعة

Analog flash clock widget

تسجيل الدخول

اسم المستخدم
كـــلمــة الــمــرور
تذكرني   
تسجيل
نسيت كلمة المرور ؟

القائمة البريدية

اشتراك

الغاء الاشتراك

عدد الزوار

انت الزائر :286163
[يتصفح الموقع حالياً [ 85
تفاصيل المتواجدون

فلسطيننا

رام الله

حطين

مدينة القدس ... مدينة السلام

فلسطين الوطن

تصميم حسام جمعة - 70789647 | سكربت المكتبة الإسلامية 5.2

 

جميع الحقوق محفوظة لرابطة المعلمين الفلسطينيين في لبنان ©2013